فصل: سورة الفرقان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآية رقم (64):

{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)}
{أَلا إِنَّ للَّهِ مَا في السماوات والأرض} {ألا} تنبيه على أن لا يخالفوا أمر من له ما في السماوات والأرض {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} أدخل {قد} ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد، والمعنى أن جميع ما في السماوات والأرض مختص به خلقاً وملكاً وعلماً فكيف تخفى عليه أحوال المنافقين وإن كانوا يجهدون في سترها؟ {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} وبفتح الياء وكسر الجيم: يعقوب أي ويعلم يوم يردون إلى جزائه وهو يوم القيامة. والخطاب والغيبة في قوله {قد يعلم} {ما أنتم عليه} {ويوم يرجعون إليه} يجوز أن يكونا جميعاً للمنافقين على طريق الالتفات، ويجوز أن يكون {ما أنتم عليه} عاماً و{يرجعون} للمنافقين {فَيُنَبّئُهُمْ} يوم القيامة {بِمَا عَمِلُواْ} بما أبطنوا من سوء أعمالهم ويجازيهم حق جزائهم {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} فلا يخفي عليه خافية. ورُوي أن ابن عباس رضي الله عنهما قرأ سورة النور على المنبر في الموسم وفسرها على وجه لو سمعت الروم به لأسلمت والله أعلم.

.سورة الفرقان:

مكية وهي سبع وسبعون آية.

.تفسير الآيات (1- 2):

{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)}
{تبارك} تفاعل من البركة وهي كثرة الخير وزيادته، ومعنى تبارك الله تزايد خيره وتكاثر أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله، وهي كلمة تعظيم لم تستعمل إلا لله وحده والمستعمل منه الماضي فحسب {الذى نَزَّلَ الفرقان} هو مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما، وسمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل والحلال والحرام، أو لأنه لم ينزل جملة ولكن مفرقاً مفصولاً بين بعضه وبعض في الإنزال ألا ترى إلى قوله: {وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ ونزلناه تَنْزِيلاً} [الإسراء: 106] {على عَبْدِهِ} محمد عليه الصلاة والسلام {لِيَكُونَ} العبد أو الفرقان {للعالمين} للجن والإنس وعموم الرسالة من خصائصه عليه الصلاة والسلام {نَذِيراً} منذراً أي مخوفاً أو إنذاراً كالنكير بمعنى الإنكار ومنه قوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} [القمر: 18] {الذى} رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو على الإبدال من {الذي نزل} وجوز الفصل بين البدل والمبدل منه بقوله {ليكون} لأن المبدل منه صلته {نزل} وليكون تعليل له فكأن المبدل منه لم يتم إلا به أو نصب على المدح {لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض} على الخلوص {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} كما زعم اليهود والنصارى في عزير والمسيح عليهما السلام {وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ في الملك} كما زعمت الثنوية {وَخَلَقَ كُلَّ شَئ} أي أحدث كل شيء وحده لا كما يقوله المجوس والثنوية من النور والظلمة ويزدان واهرمن. ولا شبهة فيه لمن يقول إن الله شيء ويقول بخلق القرآن، لأن الفاعل بجميع صفاته لا يكون مفعولاً له على أن لفظ شيء اختلص بما يصح أن يخلق بقرينة وخلق، وهذا أوضح دليل لنا على المعتزلة في خلق أفعال العباد {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} فهيأه لما يصلح له بلا خلل فيه كما أنه خلق الإنسان على هذا الشكل الذي تراه فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في الدين والدنيا أو قدره للبقاء إلى أمد معلوم.

.تفسير الآيات (3- 4):

{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)}
{واتخذوا} الضمير للكافرين لاندراجهم تحت العالمين أو لدلالة {نذيراً} عليهم لأنهم المنذرون {مِن دُونِهِ ءالِهَةً} أي الأصنام {لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي أنهم آثروا على عبادة من هو منفرد بالألوهية والملك والخلق والتقدير عبادة عجزة لا يقدرون على خلق شيء وهم يخلقون {وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَِنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} ولا يستطيعون لأنفسهم دفع ضرر عنها ولا جلب نفع إليها {وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً} إماتة {ولا حياة} أي إحياء {وَلاَ نُشُوراً} إحياء بعد الموت وجعلها كالعقلاء لزعم عابديها {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا} ما هذا القرآن {إِلاَّ إِفْكٌ} كذب {افتراه} اختلقه واخترعه محمد من عند نفسه {وَأعانَهُ عليه قومٌ آخرون} أي اليهود وعداس ويسار وأبو فكيهة الرومي قاله النضر بن الحارث {فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً} هذا إخبار من الله رد للكفرة فيرجع الضمير إلى الكفار وجاء يستعمل في معنى فعل فيعدى تعديتها، أو حذف الجار وأوصل الفعل أي بظلم وزور. وظلمهم أن جعلوا العربي يتلقن من العجمي الرومي كلاماً عربياً أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب، والزور أن بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه.

.تفسير الآيات (5- 8):

{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)}
{وَقَالُواْ أساطير الأولين} أي هو أحاديث المتقدمين وما سطروه كرستم وغيره جمع أسطار وأسطورة كأحدوثة {اكتتبها} كتبها لنفسه {فَهِىَ تملى عَلَيْهِ} أي تلقى عليه من كتابه {بُكْرَةً} أول النهار {وَأَصِيلاً} آخره فيحفظ ما يملى عليه ثم يتلوه علينا.
{قُلْ} يا محمد {أَنزَلَهُ} أي القرآن {الذى يَعْلَمُ السر في السماوات والأرض} أي يعلم كل سر خفي في السماوات والأرض، يعني أن القرآن لما اشتمل على علم الغيوب التي يستحيل عادة أن يعلمها محمد عليه الصلاة والسلام من غير تعليم، دل ذلك على أنه من عند علام الغيوب {إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} فيمهلهم ولا يعاجلهم بالعقوبة وإن استوجبوها بمكابرتهم {وَقَالُواْ مَّالِ هذا الرسول} وقعت اللام في المصحف مفصولة عن الهاء وخط المصحف سنة لا تغير، وتسميتهم إياه بالرسول سخرية منهم كأنهم قالوا: أي شيء لهذا الزاعم إنه رسول {يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى في الأسواق} حال والعامل فيها {هذا} {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقِى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} أي إن صح أنه رسول الله فما باله يأكل الطعام كما نأكل ويتردد في الأسواق لطلب المعاش كما تردد يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكاً مستغنياً عن الأكل والتعيش، ثم نزلوا عن ذلك الاقتراح إلى أن يكون إنساناً معه ملك حتى يتساندا في الإنذار والتخويف، ثم نزلوا إلى أن يكون مرفوداً بكنز يلقى إليه من السماء يستظهر به ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش، ثم نزلوا إلى أن يكون رجلاً له بستان يأكل هو منه كالمياسير أو نأكل نحن كقراءة علي وحمزة. وحسن عطف المضارع وهو {يُلْقِى} و{تَكُونُ} على {أَنَزلَ} وهو ماض لدخول المضارع وهو {فَيَكُونُ} بينهما وانتصب {فَيَكُونُ} على القراءة المشهورة لأنه جواب {لَوْلاَ} بمعنى (هلا) وحكمه حكم الاستفهام. وأراد بالظالمين في قوله {وَقَالَ الظالمون} إياهم بأعيانهم غير أنه وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالظلم فيما قالوا وهم كفار قريش {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا} سحر فجن أو ذا سحر وهو الرئة عنوا أنه بشر لا ملك.

.تفسير الآيات (9- 12):

{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)}
{انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ} بينوا {لَكَ الأمثال} الأشباه أي قالوا فيك تلك الأقوال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال من المفتري والمملي عليه والمسحور {فُضّلُواْ} عن الحق {فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} فلا يجدون طريقاً إليه.
{تَبَارَكَ الذي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذلك جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} أي تكاثر خير الذي إن شاء وهب لك في الدنيا خيراً مما قالوا، وهو أن يعجل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور. و{جنات} بدل من {خيرا}، {ويجعل} بالرفع: مكي وشامي وأبو بكر لأن الشرط إذا وقع ماضياً جاز في جزائه الجزم والرفع {بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة} عطف على ما حكى عنهم يقول: بل أتوا بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة، أو متصل بما يليه كأنه قال: بل كذبوا بالساعة فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة وهم لا يؤمنون بها؟ {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً} وهيأنا للمكذبين بها ناراً شديدة في الاستعار.
{إِذَا رَأَتْهُمْ} أي النار أي قابلتهم {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} أي إذا كانت منهم بمرأى الناظرين في البعد {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} أي سمعوا صوت غليانها وشبه ذلك بصوت المتغيظ والزافر، أو إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا غضباً على الكفار.

.تفسير الآيات (13- 16):

{وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)}
{وإِذَا أُلْقُواْ مِنْهَا} من النار {مَكَاناً ضَيّقاً} {ضيقاً} مكي فإن الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة ولذا وصفت الجنة بأن عرضها السماوات والأرض. وعن ابن عباس رضي الله عنها أنه يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح {مُقْرِنِينَ} أي وهم مع ذلك الضيق مسلسلون مقرّنون في السلاسل قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال، أو يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة وفي أرجلهم الأصفاد {دَعَوْاْ هُنَالِكَ} حينئذ {ثُبُوراً} هلاكاً أي قالوا واثبوراه أي تعال يا ثبور فهذا حينك فيقال لهم {لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً واحدا وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً} أي إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً إنما هو ثبور كثير {قُلْ أذلك خَيْرٌ} أي المذكور من صفة النار خير {أَمْ جَنَّةُ الخلد التي وَعِدَ المتقون} أي وعدها فالراجع إلى الموصول محذوف، وإنما قال: {أذلك خير}، ولا خير في النار توبيخاً للكفار {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء} ثواباً {وَمَصِيراً} مرجعاً. وإنما قيل {كانت} لأن ما وعد الله كأنه كان لتحققه أو كان ذلك مكتوباً في اللوح قبل أن خلقهم {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءونَ} أي ما يشاؤونه {خالدين} حال من الضمير في {يشاؤون} والضمير في {كان} ل {ما يشاؤون} {على رَبّكَ وَعْداً} أي موعوداً {مَّسْئُولاً} مطلوباً أو حقيقاً أن يسأل أو قد سأله المؤمنون والملائكة في دعواتهم {رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} [آل عمران: 194] {رَبَّنَا ءاتِنَا في الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً} [البقرة: 201] {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ}

.تفسير الآيات (17- 18):

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)}
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} للبعث عند الجمهور وبالياء: مكي ويزيد ويعقوب وحفص.
{وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} يريد المعبودين من الملائكة والمسيح وعزير. وعن الكلبي يعني الأصنام ينطقها الله. وقيل: عام وما يتناول العقلاء وغيرهم لأنه أريد به الوصف كأنه قيل ومعبوديهم {فَيَقُولُ} وبالنون شامي {ءأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَؤُلاَء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل} والقياس ضلوا عن السبيل إلا أنهم تركوا الجار كما تركوه في هداه الطريق والأصل إلى الطريق أو للطريق. وضل مطاوع أضله والمعنى أأنتم أوقعتموهم في الضلال عن طريق الحق بإدخال الشبه أم هم ضلوا عنه بأنفسهم؟ وإنما لم يقل (أأضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل) وزيد (أنتم) و{هم} لأن السؤال ليس عن الفعل ووجوده لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب، وإنما هو عن متوليه فلابد من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام ليعلم أنه المسؤول عنه. وفائدة سؤالهم مع علمه تعالى بالمسؤول عنه أن يجيبوا بما أجابوا به حتى يبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم فتزيد حسرتهم {قَالُواْ سبحانك} تعجب منهم مما قيل لهم وقصدوا به تنزيهه عن الأنداد وأن يكون له نبي أو ملك أو غيرهما نداً. ثم قالوا {مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء} أي ما كان يصح لنا ولا يستقيم أن نتولى أحداً دونك فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك؟ {نتخذ} يزيد. و(اتخذ) يتعدى إلى مفعول واحد نحو (اتخذ ولياً) وإلى مفعولين نحو (اتخذ فلاناً ولياً) قال الله تعالى: {أَمِ اتخذوا الِهَةً مّنَ الأرض} [الأنبياء: 21] {اتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً} [النساء: 125] فالقراءة الأولى لواحد وهو من أولياء والأصل أن تتخذ أولياء وزيدت {من} التأكيد معنى النفي، والقراءة الثانية في المتعدي إلى المفعولين فالمفعول الأول ما بني له الفعل والثاني من أولياء و{من} للتبعيض أي لا نتخذ بعض أولياء لأن من لا تزاد في المفعول الثاني بل في الأول تقول (ما اتخذت من أحد ولياً) ولا تقول (ما اتخذت أحداً من ولي) {ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ} بالأموال والأولاد. وطول العمر والسلامة من العذاب {حتى نَسُواْ الذكر} أي ذكر الله والإيمان به والقرآن والشرائع {وَكَانُواْ} عند الله {قَوْماً بُوراً} أي هلكى جمع بائر كعائذ وعوذ ثم يقال للكفار بطريق الخطاب عدولاً عن الغيبة.

.تفسير الآية رقم (19):

{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)}
{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} وهذه المفاجأة بالاحتجاج والإلزام حسنة رائعة وخاصة إذا انضم إليها الالتفات وحذف القول ونظيرها: {ياأهل الكتاب قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل} إلى قوله {فَقَدْ جَاءكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19] وقول القائل:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ** ثم القفول فقد جئنا خراساناً

{بِمَا تَقُولُونَ} بقولكم فيهم إنهم آلهة، والباء على هذا كقوله: {بَلْ كَذَّبُواْ بالحق} [ق:] والجار والمجرور بدل من الضمير كأنه قيل: فقد كذبوا بما تقولون. وعن قنبل بالياء ومعناه فقد كذبوكم بقولهم: {سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء} والباء على هذا كقولك (كتبت بالقلم) {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً} {فما يستطيعون} أي فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب أو ينصرونكم. وبالتاء حفص أي فما تستطيعون أنتم يا كفار صرف العذاب عنكم ولا نصر أنفسكم. ثم خاطب المكلفين على العموم بقوله {وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ} أي يشرك لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه ومن جعل المخلوق شريك خالقه فقد ظلم يؤيده قوله تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] {نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} فسر بالخلود في النار وهو يليق بالشرك دون الفاسق إلا على قول المعتزلة والخوارج.